الأحد, أبريل 28

الوقوع في حب كتاب مزعج

غوغل بنترست لينكـد ان تمبلر +

مرحباً ..

مرّ زمن لم أكن فيه هنا، آمل أنكم كنتم ومازلتم على خير ما يرام ..

أجل .. لقد تأخرت، أردت أن أعود بقوة، أن أكتب شيئاً جديداً، شيئاً مختلفاً، شيئاً يستحق الوقت الذي يقضيه القارئ في قراءة سطوري .

في الفترة الماضية حاولت أن أخرس الحياة وأوقف تدفق الزمن، لأفتح تحقيقاً مع ذاتي، وأنظم تساؤلاتي .

في جعبتي الكثير، الكثير من الأشياء والكثير من الكتب، أريد أن أتكلم عن الكتب، لكن ليس فقط عن الكتب، بل عن الأفكار التي في الكتب، وعن التساؤلات الذائبة في ذهني .

رغبت بفكرة مدعوكة، لامعة وخلابة، ويمكن مهما مزجتها مع أي شيء أن تمنحني طعماً حلواً .

فمع مرور الوقت وكثرة القراءة امتلأت بالأفكار حتى احتقنت واكتظّت وصار من الصعب إخراجها أو تحليلها أو حتى التخلص منها .

إلى أن انتهى بي الأمر إلى حال نزقة مع الكتب، لم أعد أجد ما يرضيني، وتراكمت الكتب الغير مقروءة والتي لم أنتهي منها على مكتبي ورفوفي ..

ربما يكون الوضع عند البعض طبيعياً ومعتاداً، لكنني لم أكن هكذا، لم أكن يوماً بهذه الصورة مع الكتب، كان الأمر سهلاً ويسيراً أمسك كتاباً أقرؤه وأنتهي منه، الآن صار صعود جبل إلى قمته أسهل بكثير من قراءة كتاب لا يروقني أو لا أرغب ببساطة بقراءته، لم تعد لي كلمة على نفسي بهذا الشأن، لقد توقفت كلياً عن قراءة أي كتاب، وصرت أنتقي القليل من الكتب، وبعد تحرٍ وتحقيق حتى لا ينتهي بها الأمر إلى أن تكون عبئاً على رفوفي .

قرأت في الفترة الماضية القليل من الكتب، لم أتوقف عن القراءة لا تسيئوا فهمي، بل النهم موجود فهو يسري في دمي ولم يتوقف ..

لكن إنهاء كتاب واحد، وفي فترة قصيرة .. هه ! لم يعد الأمر ممكناً .. على الأقل أستطيع أن أقول الآن لشخص لم يتمكن من قراءة كتاب ما أو يجد صعوبة في إنهائه بأنني أتفهمه .. لقد لبست أخيراً هذا الحذاء !.

عندما يداهمك مثل هذا المزاج النزق، تحتاج لكتب سهلة، لطيفة ولا تعبث بدماغك لأن لديك ما يكفيك .. لا أن يخبط رأسك كتاب معقد يرهق نفسك ويهزها حتى تتساقط الأفكار يميناً ويساراً وتقضي أياماً بجمعها … لقد وجدت  هذا الصباح فكرة هاربة تقفز على الرفوف حتى توقفت بجوار كتاب ” سنة القراءة الخطرة ” هممم .. ألا يبدو أنها تحاول أن تخبرني شيئاً ما !..

أكتب الآن وأنا أتحسس الخبطات التي أصابت رأسي من كتاب ” ببغاء فلوبير ” هذا الكتاب المخادع .. عندما التقينا فكرت أن المسألة سهلة، إذ يبدو من غلافه خفيفاً وهادئاً ويمكنني أن أقرؤه طوال المساء، حتى وافق أن كانت تلك الأمسية دافئة وتغوي على الاسترخاء .

لكن هيهات .. تعكّرت الجلسة منذ البداية … يا لأفكاره الفوضوية، فمن بدايته يصعب تصنيفه .. يصنفه كاتبه بأنه رواية، هل تمزح ؟ قرأت مئات الروايات وأستطيع أن أقول بأن ما بدأت به هو أبعد ما يكون عن الرواية .

لعلي ذكرت مرة كم أنزعج من الكتب التي يصعب تصنيفها ؟ ربما لم أفعل .. لأنني أحب أن أرى نفسي خارج التصنيفات وأحاول دائماً ممارسة الأمر مع الناس، عندما لا تصنف أحداً تنصفه، فتتوقف عن محاكمته، وعندما يحدث ذلك يصبح تقبل اختلافه أمراً يسيراً، هذا أسلوبي عموماً، لكن الحقيقة وبلا مجاملات لقد كرهت هذا الكتاب، عفواً رواية  أقصد الرواية، فلنقل أن المائة صفحة الأولى كانت ثقيلة على نفسي جداً، لأنني لم أكن أدري إلى ماذا يريد، بدا أسلوبه أكاديمياً بحتاً، وأنا لا أحب الأسلوب الممنهج وأفر منه دائماً لأنه يشعرني بالكبت ولا يطلق من ذهني الأفكار .

تركته جانباً وقلت لا بأس لعل مزاجي لا يلائمه اليوم، مرّ يوم وآخر وآخر وأنا أجرجر كتابي معي لكل مكان، علّي أتمكن من قراءة عدة صفحات في الأوقات الضائعة، لكن لم أفعل .. ثم جاءت أمسية ملائمة وفتحته مجدداً وحاولت أن أجبر نفسي بكل ما أملك من قوة إرادة على المتابعة، مرّ الوقت وأنا أقرأ بلا توقف، استغرقت فيه كلياً حتى أدركت كم هو كتاب عبقري ومدهش، لقد أحببــته .

ظننت أن الراوي في الرواية هو الكاتب نفسه، جاءت كلماته ووصفه شديدة الواقعية يصعب استيعاب أنها متخيلة وغير حقيقية، حتى أسلوب وشخصية الراوي تشبه الكاتب بلغته الأكاديمية الفخمة، ومنهجه في البحث والتقصي، والاستعارة المتكررة من المعجم .. لقد تلاعب بي الكاتب وهذا ما أحببته . كانت اللغة صادقة لدرجة أن الكتاب بدا واقعياً تماما، يصعب تصديق أن رحلة البحث عن ببغاء فلوبير وتقصي حقائق عميقة عن حياته التي قام بها الرواي  ليست إلا مجرد حكاية .

ناقش أسلوب فلوبير، ومنهجه، وقضية رواية مدام بوفاري والملابسات التي أدت إلى محاكمتها بعمق وبما وراء العمق لأكون أكثر دقة، لم أقرأ من قبل رواية تقوم فكرتها على إعجاب لا متناه ومحاولات تجريد كاتب ما من أي اتهامات أو نظرة مبتذلة وتكون بهذه البراعة، وتلك الدرجة من الكمال، أقصد كمال بناء الفكرة .. لا سيما إذا كان الزمن الذي يفصل ما بين فلوبير وتاريخ صدور هذه الرواية هو قرن كامل .

قرأت فيما مضى كتاباً مشابهاً له في فكرته، وهو من الكتب التي أحببتها ولامستني واستمتعت بقراءتها، وهو كتاب ” أن تقرأ لوليتا في طهران ” تكلمت عنه في المدونة، وكنت أرغب يومها أن أفرد له تدوينة خاصة ولم أفعل، ويسرني اليوم بأن تحديت فتوري واستفردت لهذا الكتاب هذه التدوينة .

كما يبدو أواضحاً عدم اطلاعي مسبقاً على روايات غوستاف فلوبير، وحتى بعد القراءة له لا أدعي أنني مهتمة به، وإعجابي بالرواية بالرغم من مناقشتها لكاتب ترددت طويلاً بالقراءة له؛ لأنها ألمّت رغم قصرها بمواضيع كثيرة، فهي معبأة بالوصف والتحليل عن العلاقة التي تحدث بين القارئ والكاتب أثناء القراءة، وعن تقنيات وشخصيات الرواية وعن البنية التصويرية، كما أنها مصبوغة بسخرية ساحرة كانت من اللطف بأن رسمت الابتسامة على وجهي بين وقت وآخر .. إنه باختصار كتاب من تلك الكتب القليلة التي سأعود إليها مراراً في المستقبل .

والأهم قبل الختام أن أشيد بالترجمة وانسيابها مع اللغة الأصلية للرواية، خاصة في رواية معقدة كهذه، إذ لا يوجد أسوأ من ترجمة تنازع الكتاب فكرته ولغته الأصلية .

ملاحظة: إذا كان حديثي عن الرواية لفت انتباهك، وترغب بقراءتها، تحتاج إلى عدة أدوات :

من المهم جداً جداً جداً أن تقرأ مدام بوفاري، أردت أن أوفر مساحة كافية للحديث عنها هي أيضاً في هذه التدوينة، لكن يا الله إنها رواية جامحة وثقيلة، تحتاج إلى حوار طويل، ولازلت أكافح آثار الثمالة التي أصابتني منها، وأيضاً لا أريدها أن تسرق الجو فهي قادرة كلياً على أن تسقط كتابي المزعج هذا أرضاً، لكن عليك أن تقرأها لأنك إذا كنت عنيداً مثلي ولم تفعل في البداية ستضطر في وقت ما إلى التوقف والعودة إليها، فكن قارئاً طيباً وابدأ بها أولاً، لطفاً لا أمراً …

كذلك سينفعك إلمامك مبدأياً بحركة ما بعد الحداثة، تكفيك جولة قصيرة، ومرّ وأنت في الطريق على مذهب الأدب الرومانسي والمذهب الواقعي فهي خامات ستحتاجها إن كنت لم تقرأ عنها من قبل.

” أن يكون الكاتب شمولياً في التعاطف، ومنبوذاً بطبيعته، ففي هذه الحالة يستطيع أن يرى بوضوح . – ببغاء فلوبير “

نبذة عن الكتب:

ببغاء فلوبير – جوليان بارنز

ترجمة: بندر الحربي

عدد الصفحات: ٢٨١

إصدار روايات – الطبعة الأولى

صدر الأصل الانجليزي عام ١٩٨٤

مدام بوفاري – غوستاف فلوبير

ترجمة: محمد مندور

عدد الصفحات: ٤٧٥

أصدار دارب الآداب – طبعة ٢٠٠٩

صدر الأصل الفرنسي عام ١٨٥٧

* اضطررت إلى قراءتها من النسخة الالكترونية دون سابق إنذار، بعد ضغط وتحفيز من الرواية أعلاه .

شارك.

عن الكاتب

صفية عبد الرحمن

اترك تعليق